عليك أن تستعيد ذلك الزمن المنسِيّ
بَدَت الحاكمة الأوليجاركية، الجالسة خلف المكتب الكبير المصقول بعناية ـ المصنوع من خشب الماهوجني الأحمر الأصلي ـ شديدة الضآلة، أو موغلة في البعد، أو كلا الأمرين معًا. استغرقني الأمر وقتًا طويلًا لِأَصِل إلى هنا، وعلمتُ أن عليَّ انتظارها حتى تتحدث.
قالت لي: «أفهمُ أن لديك شيئًا مثيرًا تقدِّمه لي». لم يكن بوسعي أن أحدِّق في وجهها، ولكني لمحت شفتيها تتحركان. بدا صوتها نقيًّا، وكأنه خضع لمعالجة صوتية. لم تكن أذناي قادرتين على تحديد الاتجاه الذي تصدر منه الكلمات بالفعل، لكن ذلك كان متوقَّعًا بالنسبة لي.
قلت لها: «لديَّ شريحةٌ من الزمن»، وصَمَتُّ برهةً في انتظار أن أرى وقع كلماتي عليها، ثم أردفتُ قائلاً: «إنها شريحة مميزة للغاية، أظنها ستثير اهتمامك».
ردَّت: «شريحة من الزمن»، وبدت كما لو كانت تقلِّب الكلمات في رأسها لتفهمها، ثم قالت: «وكيف لك أن تقتطع قطعة من الزمن؟ هل ستقتطعها من الكون بأسره؟ أم من جزء صغير منه؟»
لفتت نظري حدة ذكائها، ونظرتها الثاقبة. أجبتُها: «مِن الجزء الذي تتمنين مِن الكون فقط». وباعتبارها «أوليجاركية»، أي تنتمي إلى القلة الحاكمة، كانت قد تَمَنَّت كل ما امتدت إليه أيادي البشر، ولو أن الجزء الخاص بنا من الكون صغير جدًّا. ولم يكن لها سبيلٌ إلى النجوم، شأنها في ذلك شأن سائرنا. لقد دَرَسَ أسلافنا النجوم لدهور لا تُعَدّ ولا تُحصَى، حتى إنهم قد رصدوا كواكبها، لكننا نعرف حدودنا الآن، في عصر «الأوليجاركية». فليست النجوم سوى بقع تضيء السماء، يمكننا رؤيتها، ولكنْ لا يمكننا لَمْسها أبدًا.
اخترقتني عيناها. تساءلتُ في نفسي عن مكانها الحقيقي، وعن عدد طبقات المحاكاة التي كانت تفصل بيننا. لم تكن أوليجاركية أصلية؛ فقد عاش الأوليجاركيون الأوائل وماتوا، قبل أن يتعلم المتأخرون كيف يطيلون أعمارهم إلى الأبد تقريبًا. تم استنساخ عقولهم، ومحاكاتها، بينما حُفظت أجسامهم في حالة شبه سرمدية، لا تنتهي إلا عندما تتوقف أجهزة المحاكاة عن الاستجابة. وبهذه الطريقة.. تَوَلَّى الحُكْم تابعوهم، بالتشاور مع أجهزة المحاكاة، حتى أتى زمنٌ أصبح فيه التابعون أنفسهم مجمَّدين، وانتقل الحُكْم إلى تابعي التابعين.
قضيتُ شهورًا وأنا أعرض شريحتي الزمنية على طبقات من التابعين ومساعديهم، قبل أن أتمكن من الوصول إلى جهاز المحاكاة الخاص بالحاكمة. وانتظرتُ أن تأتيني كلماتها.
خاطبَتْني أخيرًا قائلةً: «ليس لدينا أيّ سجل لأي زمن مفقود»، وانتشرت كلماتها عبر الغرفة كذبذبات صوتية خافتة، ثم غاصت في الجدران، دون صدى.
قلتُ لها: «هذه الشريحة تعود إلى ما قبل سجلات الزمن»، وتوقفت حتى تنتشر كلماتي في أرجاء الغرفة بالطريقة نفسها، وحتى تنتقل أفكارها الاصطناعية المعقدة عبر شبكة من الآلات، التي تتواصل من خلالها مع العالَم. أردتُ أن تعود بها تلك الآلات إلى أي جانب بشري منها، ظل مخفيًا في مكان ما، عميق، ومظلم، ومَصُون.
مرَّ وقت طويل، كما توقعت. يستغرق التفكير وقتًا، والعقل البشري يحتاج وقتًا أطول مما تحتاجه أجهزة المحاكاة، التي لا تملك إلا أن تفحص مجموعة محدودة من الاحتمالات.
أخيرًا سألتني: «متى؟»
أجبتها: «عندما كنتِ طفلة»، وتابعت: «كنتِ صغيرة، ربما في الرابعة أو الخامسة من عمرك، تسيرين بمحاذاة مجرى مائي طويل، في وادٍ جبلي صغير، ترهفين السمع إلى صوت الماء المتحدِّر على الصخور، في وقت ما بعد الظهيرة، في يوم مشمس في أواخر الصيف. كنتِ سعيدة وحُرَّة. لم يكن من السهل عليَّ العثور على وقتٍ كهذا».
قالت لي: «أرِني».