Wednesday, June 8, 2016

شريحة من الزمن


عليك أن تستعيد ذلك الزمن المنسِيّ
جيف هيكت
بَدَت الحاكمة الأوليجاركية، الجالسة خلف المكتب الكبير المصقول بعناية ـ المصنوع من خشب الماهوجني الأحمر الأصلي ـ شديدة الضآلة، أو موغلة في البعد، أو كلا الأمرين معًا. استغرقني الأمر وقتًا طويلًا لِأَصِل إلى هنا، وعلمتُ أن عليَّ انتظارها حتى تتحدث.
قالت لي: «أفهمُ أن لديك شيئًا مثيرًا تقدِّمه لي». لم يكن بوسعي أن أحدِّق في وجهها، ولكني لمحت شفتيها تتحركان. بدا صوتها نقيًّا، وكأنه خضع لمعالجة صوتية. لم تكن أذناي قادرتين على تحديد الاتجاه الذي تصدر منه الكلمات بالفعل، لكن ذلك كان متوقَّعًا بالنسبة لي.
قلت لها: «لديَّ شريحةٌ من الزمن»، وصَمَتُّ برهةً في انتظار أن أرى وقع كلماتي عليها، ثم أردفتُ قائلاً: «إنها شريحة مميزة للغاية، أظنها ستثير اهتمامك».
ردَّت: «شريحة من الزمن»، وبدت كما لو كانت تقلِّب الكلمات في رأسها لتفهمها، ثم قالت: «وكيف لك أن تقتطع قطعة من الزمن؟ هل ستقتطعها من الكون بأسره؟ أم من جزء صغير منه؟»
لفتت نظري حدة ذكائها، ونظرتها الثاقبة. أجبتُها: «مِن الجزء الذي تتمنين مِن الكون فقط». وباعتبارها «أوليجاركية»، أي تنتمي إلى القلة الحاكمة، كانت قد تَمَنَّت كل ما امتدت إليه أيادي البشر، ولو أن الجزء الخاص بنا من الكون صغير جدًّا. ولم يكن لها سبيلٌ إلى النجوم، شأنها في ذلك شأن سائرنا. لقد دَرَسَ أسلافنا النجوم لدهور لا تُعَدّ ولا تُحصَى، حتى إنهم قد رصدوا كواكبها، لكننا نعرف حدودنا الآن، في عصر «الأوليجاركية». فليست النجوم سوى بقع تضيء السماء، يمكننا رؤيتها، ولكنْ لا يمكننا لَمْسها أبدًا.
اخترقتني عيناها. تساءلتُ في نفسي عن مكانها الحقيقي، وعن عدد طبقات المحاكاة التي كانت تفصل بيننا. لم تكن أوليجاركية أصلية؛ فقد عاش الأوليجاركيون الأوائل وماتوا، قبل أن يتعلم المتأخرون كيف يطيلون أعمارهم إلى الأبد تقريبًا. تم استنساخ عقولهم، ومحاكاتها، بينما حُفظت أجسامهم في حالة شبه سرمدية، لا تنتهي إلا عندما تتوقف أجهزة المحاكاة عن الاستجابة. وبهذه الطريقة.. تَوَلَّى الحُكْم تابعوهم، بالتشاور مع أجهزة المحاكاة، حتى أتى زمنٌ أصبح فيه التابعون أنفسهم مجمَّدين، وانتقل الحُكْم إلى تابعي التابعين.
قضيتُ شهورًا وأنا أعرض شريحتي الزمنية على طبقات من التابعين ومساعديهم، قبل أن أتمكن من الوصول إلى جهاز المحاكاة الخاص بالحاكمة. وانتظرتُ أن تأتيني كلماتها.
خاطبَتْني أخيرًا قائلةً: «ليس لدينا أيّ سجل لأي زمن مفقود»، وانتشرت كلماتها عبر الغرفة كذبذبات صوتية خافتة، ثم غاصت في الجدران، دون صدى.
قلتُ لها: «هذه الشريحة تعود إلى ما قبل سجلات الزمن»، وتوقفت حتى تنتشر كلماتي في أرجاء الغرفة بالطريقة نفسها، وحتى تنتقل أفكارها الاصطناعية المعقدة عبر شبكة من الآلات، التي تتواصل من خلالها مع العالَم. أردتُ أن تعود بها تلك الآلات إلى أي جانب بشري منها، ظل مخفيًا في مكان ما، عميق، ومظلم، ومَصُون.
مرَّ وقت طويل، كما توقعت. يستغرق التفكير وقتًا، والعقل البشري يحتاج وقتًا أطول مما تحتاجه أجهزة المحاكاة، التي لا تملك إلا أن تفحص مجموعة محدودة من الاحتمالات.
أخيرًا سألتني: «متى؟»
أجبتها: «عندما كنتِ طفلة»، وتابعت: «كنتِ صغيرة، ربما في الرابعة أو الخامسة من عمرك، تسيرين بمحاذاة مجرى مائي طويل، في وادٍ جبلي صغير، ترهفين السمع إلى صوت الماء المتحدِّر على الصخور، في وقت ما بعد الظهيرة، في يوم مشمس في أواخر الصيف. كنتِ سعيدة وحُرَّة. لم يكن من السهل عليَّ العثور على وقتٍ كهذا».
قالت لي: «أرِني».

Sunday, May 8, 2016

مربي الخنازير




كان هناك أمير فقير لديه مملكة. وكانت مملكته صغيرة جداً لكنها كانت كبيرة بما يكفي للزواج، وقد كان الأمير يصبو لهذا.
كان من الفظاظة بمكان أن يقول لابنة الإمبراطور: "هل تأخذينني لك؟" لكنه فعل ذلك؛ لأنه كان شهيراً وكانت هناك مائة أميرة يمكن أن تجيب بالموافقة، وتقول: "شكراً لك" لكن دعنا نسمع بِمَ أجابته تلك الأميرة. 

ثياب الإمبراطور الجديدة




منذ أعوام عديدة كان هناك إمبراطور مولع للغاية بالثياب الجديدة؛ حتى إنه أنفق كل ماله على الثياب. لم يهتم البتة بجنوده ولم يبال بالذهاب إلى المسرح أو الصيد. فقط كان يختار المناسبات التي تتيح له أن يعرض ثيابه الجديدة. وكانت لديه حلة مختلفة لكل ساعة من اليوم، وكما اعتدنا أن نقول عن أي ملك أو امبراطور آخر : "إنه في المجلس" ، كان يقال عن هذا الإمبراطور: "إنه يجلس في خزانة الثياب" .
مر الزمن السعيد على المدينة الكبيرة التي كانت عاصمة إمبراطوريته، وكان الغرباء يأتون كل يوم إلى البلاط .. وذات يوم ظهر محتالان يطلقان على نفسيهما نساجين، وأعلنا أنهما يجيدان نسج ثياب باهرة الجمال متقنة التصاميم.. وأن الثياب التي ينسجانها تمتاز بأنها شفافة لا يراها إلا من كان غير صالح لمنصبه، أو كان ساذجاً إلى درجة تفوق الوصف. 

بائعة الثقاب الصغيرة




بارداً بشكل شنيع كان الجو.. لقد تساقط الجليد.. وكان الظلام شبه دامس.. والليلة آخر ليلة في العام. وفي وسط هذا البرد والظلام مضت في الشارع فتاة صغيرة فقيرة، عارية الرأس حافية القدمين. كانت تلبس خفين عندما غادرت منزلها.. هذا حق.. لكن ما فائدتهما؟ كانا كبيرين جداً لأنهما كان يخصان أمها. كانا كبيرين جداً وقد فقدتهما المخلوقة التعسة وهي تمشي عبر الشارع بسبب عربتين مسرعتين. 

قصة أم



جلست الأم مع صغيرها مكتئبة خائفة عليه من الموت! كان شاحباً، وعيناه مغلقتان وكان يجذب نفسه في وهن من آن لآخر، ومن حين لآخر يأخذ شهيقاً عميقاً كأنما هو يتنهد.. فراحت الأم تنظر بأسى إلى المخلوق الصغير.
ثم دوت طرقة على الباب. ومنه دخل رجل عجوز فقير يلتف بغطاء ظهر جواد لأنه يبعث الدفء، وكان الرجل بحاجة إليه لأن هذا كان موسم الشتاء البارد. كل شيء خارج الأبواب كان مغطى بالثلج والجليد وهبت الريح حتى توشك أن تمزق الوجوه..
إذ ارتجف الرجل برداً ونام الطفل للحظة، نهضت المرأة وصبت بعض الشراب في وعاء ووضعته على الموقد لتدفئه.. جلس العجوز وهز المهد، فجلست المرأة تتفحص صغيرها وهو يسحب أنفاسه بقوة. ورفعت يده الصغيرة. 

Monday, November 23, 2015

حيــاة الأعـزب . . .




الجمعة :
أنا حاكم لا شريك له على بيت أنيق ..
ليس لي ثانٍ في دولتي الصغيرة الجميلة . أستطيع أن أصحى متى شئت .. و أنام متى شئت .. و أخلع ثيابي .. و أغني .. و أُطرقع مفاصلي .. و أشرب الماء أو العرقسوس أو الويسكي كما يحلو لي ...
ليس على أكتافي شئ سوى رأسي ... لا مسئوليات .. لا هموم .. لا مطالب .. لا واجبات .. فأنا أعزب .. كلمة جميلة حلوة .. هذه الكلمة .. أعزب ..
لقد تذكرتها و أنا أحلق ذقني .. و أنظر إلى وجهي في المرآة .
فصفرت بفمي نشيد المارسيليز إحتفالا بالحرية المطلقة التي أعيش فيها .. و الإمبراطورية الواسعة التي أحكمها .. و التي تتألف من ثلاث غرف و صالة و حمام أنيق بالقيشاني ..

Sunday, November 22, 2015

ميعاد الروح


الأم العجوز تجلس بجوار "البلكون"، مسندة رأسها إلى الشيش الخشبي القديم، تبدو في عينيها مسحة حزن عميق، ونسائم ليل خريفية تأتي إليها، تهزهز شراشف شالها الأسود المحكم حول رأسها ورقبتها، لم تكن تشعر بشيء، كانت شاردة فقط، شاردة إلى بعيد، تفكر... تمر الذكرى برأسها فينتفض جسدها بشدة. تعاود النظر إلى صورته بالزي العسكري المثبتة فوق الحائط، متأملة قسمات وجهه، ابتسامته الصافية، وعينيه اللامعتين.. في مثل هذه الليلة منذ أعوام طويلة، رحل عنها، رحل وتركها وحيدة دون أن يعود.

الحور العين



كان يوما دراسيا طويلا وشاقا كما أني وقفت مع كثير من زملائي قليل من أصدقائي تكلمنا تضاحكنا صمتنا . بعض من السلامات لا تدوم اكثر من دقيقه، بعدها ننتقل لمكان آخر نجد آخرين تكثر السلامات .. تزداد الكلمات والأحاديث تجد وجوها جديدة .. وجوها مكرره , أوصاف , ملامح , شعارات ,, معان و مضاداتها , تجد كل المتناقضات .المهم أنني أحسست بالإرهاق فأنتقلت لأجلس بالقرب من الاشجار الموجودة لمجرد الراحة لا أكثر استعدادا للمغادرة....

Wednesday, November 18, 2015

تنكة صدئة في الخزينة



    كان يا ما كان.. كان، أو ما كان... في قديم الزمان، مكان ما في العام، مكان ما كان فيه شيء، في هذا المكان الذي ما كان فيه شيء، كان ثمة سلطان، السلطان عنده خزينة، في الخزينة أمانة الشعب الغالية. الشعب يفخر بهذه الأمانة الآيلة إليه من أجداده... يتناسى فقره وبؤسه ويتباهى بها قائلا:
    وحتى لو لم يكن عندنا شئ يكفينا أن تكون عندنا هكذا أمانة من الأجداد لا يفعل ذلك شخص شخصان... وإنما كل فرد من أفراد الشعب يستأثر بحصة من المباهاة بهذه الأمانة القيمة الباقية له من أجداده... يحميها بروحه وجسده.
    وطالما أن أحسن مكان لحفظ الأمانة التي هي مال الشعب هو خزينة السلطان فقد خبئت فيها، يحرسها رجال مدججون، لا يغمض لهم جفن ولا يدعون الطير تطير فوقها.
    السلطان والصدر الأعظم وذوو المراتب في القصر يقسمون بشرفهم مرة كل عام على حمايتها.

الحمار الحائز على وسام



    كان في قديم الزمان.. بلد، الغربال في التبن، والجمل دلاّل، والجربوع حلاق، وأنا في حضن أمي اهتز، وبكري مصطفى شيخ الاسلام، والجاويش انجلي قائد عام، وكركوز رئيس وزراء، وكان حاكم سلطان،البلاد التي كانت تحت نفوذ هذا السلطان أشرقن شمس الحرية عليها، واخضوضرت شجرة الديمقراطية في تربتها.. الخير كثير والراحة أكثر، سكانها لا هم لهم ولا غم.
    راحت ايام جاءت أيام، حل فيها -وقاكم الله – قحط لا يوصف. الذين كانو يأكلون الكثير واللذيذ أصبحوا محرومين حتى من كسرة الخبز اليابس.
    وجد السلطان أن المجاعة ستفتك بالرعية فبحث عن طريق للخلاص. أطلق المنادين في أنحاء البلاد، دارها بلدة بلدة، قرية قرية، حارة حارة، كان القرار الذي نادى به هكذا :
    – يا أهالي البلد !الحاضر يعلم الغايب ! كل من قدم خدمة للسلطنة أو نفعا للوطن، فليسرع إلى القصر ليقدم له مولانا السلطان وساماَ.